فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولأجل عين ألف عين تكرم

ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة، فإن كان معها آخذ لعلم أو عمل كانت أجدر، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة، وذلك لقول النبي- صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب» في جواب من سأل عمن يحب القوم ولم يلحق بهم.
ولما كان ربما خيف أن ينقص الآباء بسبب إلحاق ذرياتهم بهم شيئًا من درجاتهم، قال: {وما ألتناهم} أي نقصنا الآباء وحبسنا عنهم {من عملهم} وأكد النفي بقوله: {من شيء} بسبب هذا الإلحاق وكان من فوق رتبتهم من الذين يؤمنون والمؤمنين والمتقين وغيرهم أولى منهم، وإنما فصلهم منهم لأن هؤلاء قد لا يوقنون قبل دخول الجنة العذاب، قال جامعًا للفريقين، أو يقال- ولعله أقرب- أنه لما ذكر اتباع الأدنى للأعلى في الخير فضلًا، أشفقت النفس من أن يكون إتباع في الشر فأجاب تعالى بأنه لا يفعل بقوله: {كل امرىء} أي من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم {بما كسب} أي من ولد وغيره {رهين} أي مسابق ومخاطر ومطلوب وآخذ شيئًا بدل كسبه وموفي على قدر ما يستحقه ومحتبس به إن كان عاصيًا، فمن كان صالحًا كان آخذًا بسبب صلاح ولده لأنه كسبه، ولا يؤخذ به ذلًا وهو حسن في نفسه لأجل الحكم بإيمانه سواء كان حقيقة أو حكمًا وكل حسن مرتفع، فلذلك يلتحق بأبيه، وأما الإساءة فقاصرة على صاحبها يؤخذ بها ويرهن بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره، والحاصل أن المعالي التي هي كالحياة تفيض من صاحبها على غيره فتحييه، والمساوئ التي هي كالموت لا يتعدى صاحبها، قال الرازي في اللوامع: اعلم أن الذوات بقاؤها ودوامها ببقاء صورها، فحيث ما كانت الصورة المقومة لها أدوم كانت الذوات بها أقوم، وأن النفوس الإنسانية ذوات وصورها علومها وأخلاقها، فحيث ما كانت العلوم حق اليقين ثم عين اليقين، والأخلاق مقومة على نهج الشرع المبين، كانت النفوس دائمة بدوامها غير مستحيلة، إذ لا تتطرق الاستحالة إلى اليقين والعمل الحق، وغير كائنة ولا فاسدة إذ ليس عن اليقين ولا العلوم الحقيقية من عالم الكون والفساد، وإن لم تبلغ النفس إلى كمال اليقين فتعلقت بدليل صاحبه كما انخرطت في سلكها حتى يخرط الإنسان في سلك محبته، لو أحب أحدكم حجرًا لحشر معه، فإن الدين هو الحب في الله والبغض في الله، ولهذا اكتفى الشرع من المكلفين بالإسلام وتسليم وتفويض وتحكيم دون الوقوف على المسائل العويصة بالبراهين الواضحة الصحيحة، وما لم يبلغ الولد حد التكليف واخترم ألحقوا بآبائهم وحكم عليهم بحكم عقائدهم وآرائهم حتى يكون حكم آبائهم جاريًا عليهم وحكم القيامة نافذًا فيهم، وأما إذا كانت الصورة القائمة بالذوات مستحيلة بأن كانت جهلًا وباطلًا ينقص أوله آخره وآخره أوله، كانت ذات النفس لا تنعدم ولا تفنى بل تبقى على حال لا يموت فيها ولا يحي، فإنها لو فنيت لاستراحت ولو بقيت لاستطابت، فهي على استحالة بين الموت والحياة، وهذه الاستحالة لا تكون إلا في أجساد وأبدان.
{كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها} [النساء: 56] انتهى.
وهو كما ترى في غاية النفاسة، ويؤيده «يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ويجوز أن تكون الجملة تعليلًا لما قبلها من النفي، أي ما نقصناهم لأنه قد سبق في حكمنا بأن يكون {كل امرىء} قدرنا أن يرتهن بما قد ينقصه {بما كسب} أي لا يضر ما كسب ما كسبه غيره {رهين} أي معوق عن النعيم حتى يأتيه بما يطلق من العمل الصالح.
ولما جمعهم في إلحاق الذرية بهم لأنهم من أعظم النعيم، وأمنهم مما قد يخشى من نقصهم بنقصه غيرهم، وعلل ذلك ليكون أرسخ في النفس، أتبعه بما يشاكله فقال: {وأمددناهم} أي آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة زيادة على ما تقدم {بفاكهة}.
ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما يعرفونه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكها ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال: {ولحم مما يشتهون} ليس فيه شيء منه مما لا يعجبهم غاية الإعجاب.
ولما كان هذا النعيم العظيم المقيم يدعو إلى المعاشرة، بالقرينة العاطرة، بين أن ذلك حالهم اللازمة الظاهرة، من الخصال اللائقة الطاهرة، فقال: {يتنازعون} أي يشربون متجاذبين مجاذبة الملاعبة لفرط المحبة والسرور وتحلية المصاحبة {فيها كأسًا} أي خمرًا من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها.
ولما كان في خمر الدنيا غوائل نفاها عنها فقال: {لا لغو} أي سقط مما يضر ولا ينفع {فيها} أي في تنازعها ولا بسبها لأنها لا تذهب بعقولهم ولا يتكلمون إلا بالحسن الجميل {ولا تأثيم} أي ولا شيء فيها مما يلحق شرَّابها إثما ولا يسوغ نسبه.
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ولا يعظم إلا بخدم وسقاة قال: {ويطوف عليهم} أي بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف {غلمان} ولما كان أحب ما إلى الإنسان ما يختص به قال: {لهم} ولم يضفهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحد في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادمًا له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعًا، وأفاد التنكير أن كل من دخل الجنة وجد له خدمًا لم يعرفهم قبل ذلك {كأنهم} في بياضهم وشدة صفائهم {لؤلؤ مكنون} أي مصون في الصدف لم تغيره العوارض، هذا حال الخادم فما ظنك بالمخدوم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)}.
على ما هو عادة القرآن من بيان حال المؤمن بعد بيان حال الكافر، وذكر الثواب عقيب ذكر العقاب ليتم أمر الترهيب والترغيب، وقد ذكرنا تفسير المتقين في مواضع، والجنة وإن كانت موضع السرور، لكن الناطور قد يكون في البستان الذي هو غاية الطيبة وهو غير متنعم، فقوله: {وَنَعِيمٍ} يفيد أنهم فيها يتنعمون، كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطور.
{فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)}.
وقوله: {فاكهين} يزيد في ذلك لأن المتنعم قد يكون آثار التنعم على ظاهره وقلبه مشغول، فلما قال: {فاكهين} يدل على غاية الطيبة، وقوله: {بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} يفيد زيادة في ذلك، لأن الفكه قد يكون خسيس النفس فيسره أدنى شيء، ويفرح بأقل سبب، فقال: {فاكهين} لا لدنو هممهم بل لعلو نعمهم حيث هي من عند ربهم.
وقوله تعالى: {ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون المراد أنهم فاكهون بأمرين أحدهما: بما آتاهم، والثاني: بأنه وقاهم وثانيهما: أن يكون ذلك جملة أخرى منسوقة على الجملة الأولى، كأنه بيّن أنه أدخلهم جنّات ونعيمًا ووقاهم عذاب الجحيم.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}.
فيه بيان أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المسكن وهو الجنّات ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله قوله: {جنات} إشارة إلى المسكن والمسكن للجسم ضروري وهو المكان، فقال: {فاكهين} لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون مما آتاهم الله، وقد ذكرنا هذا، وأما في الأكل والشرب والإذن المطلق فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما، وقوله تعالى: {هَنِيئًَا} إشارة إلى خلوهما عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا، منها أن الآكل يخاف من المرض فلا يهنأ له الطعام، ومنها أنه يخاف النفاد فلا يسخو بالأكل والكل منتف في الجنة فلا مرض ولا انقطاع، فإن كل أحد عنده ما يفضل عنه، ولا إثم ولا تعب في تحصيله، فإن الإنسان في الدنيا ربما يترك لذة الأكل لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة أو ما فيه من قضاء الحاجة واستقذار ما فيه، فلا يتهنأ، وكل ذلك في الجنة منتف.
وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إشارة إلى أنه تعالى يقول أي مع أني ربكم وخالقكم وأدخلتكم بفضلي الجنة، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان} [الحجرات: 17].
وأما اليوم فلا من عليكم لأن هذا إنجاز الوعد فإن قيل قال في حق الكفار {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7] وقال في حق المؤمنين {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهل بينهما فرق؟ قلت بينهما بون عظيم من وجوه الأول: كلمة {إِنَّمَا} للحصر أي لا تجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن فإنه يجزيه أضعاف ما عمل ويزيده من فضله، وحينئذ إن كان يمن الله على عبده فيمن بذلك لا بالأكل والشرب الثاني: قال هنا {بِمَا كُنتُمْ} وقال هناك {مَّا كُنتُمْ} أي تجزون عين أعمالكم إشارة إلى المبالغة في المماثلة كما تقول هذا عين ما عملت وقد تقدم بيان هذا وقال في حق المؤمن {بِمَا كُنتُمْ} كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملكم هذا الثالث: ذكر الجزاء هناك وقال هاهنا {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن الجزاء ينبىء عن الانقطاع فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئًا آخر.
فإن قيل فالله تعالى قال في مواضع {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14] في الثواب، نقول في تلك المواضع لما لم يخاطب المجزي لم يقل تجزى وإنما أتى بما يفيد العالم بالدوام وعدم الانقطاع.
وأما في السرر فذكر أمورًا أيضًا أحدها: الاتكاء فإنه هيئة تختص بالمنعم، والفارغ الذي لا كلفة عليه ولا تكلف لديه فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس له ولا يتكىء عنده، ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فالهيئة دليل خير.
ثم الجمع يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون لكل واحد سرر وهو الظاهر لأن قوله: {مَصْفُوفَةٌ} يدل على أنها لواحد لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفة ولفظ السرير فيه حروف السرور بخلاف التخت وغيره، وقوله: {مَصْفُوفَةٌ} دليل على أنه لمجرد العظم فإنها لو كات متفرقة لقيل في كل موضع واحد ليتكىء عليه صاحبه إذا حضر في هذا الموضع، وقوله تعالى: {وزوجناهم} إشارة إلى النعمة الرابعة وفيها أيضًا ما يدل على كمال الحال من وجوه أحدها: أنه تعالى هو المزوج وهو يتولى الطرفين يزوج عباده بأمانه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء ثانيها: قال: {وزوجناهم بِحُورٍ} ولم يقل وزوجناهم حورًا مع أن لفظة التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف يقال زوجتكها قال تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا زوجناكها} [الأحزاب: 37] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم وذلك لأن المفعول بغير حرف يعلق الفعل به كذلك التزويج تعلق بهم ثم بالحور، لأن ذلك بمعنى جعلنا ازدواجهم بهذا الطريق وهو الحور ثالثها: عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحسن واختار الأحسن من الأحسن، فإن أحسن ما في صورة الآدمي وجهه وأحسن ما في الوجه العين، ولأن الحور والعين يدلان على حسن المزاج في الأعضاء ووفرة المادة في الأرواح، أما حسن المزاج فعلامته الحور، وأما وفرة الروح فإن سعة العين بسبب كثرة الروح المصوبة إليها، فإن قيل قوله: {زوجناهم} ذكره بفعل ماض و{مُتَّكِئِينَ} حال ولم يسبق ذكر فعل ماض يعطف عليه ذلك وعطف الماضي على الماضي والمستقبل على المستقبل أحسن، نقول الجواب من وجوه اثنان لفظيان ومعنوي أحدها: أن ذلك حسن في كثير من المواضع، تقول جاء زيد ويجيء عمرًا وخرج زيد ثانيها: أن قوله تعالى: {إِنَّ المتقين في جنات وَنَعِيمٍ} تقديره أدخلناهم في جنات، وذلك لأن الكلام على تقدير أن في اليوم الذي يدع الكافر في النار في ذلك الوقت يكون المؤمن قد أدخل مكانه، فكأنه تعالى يقول في يوم يدعون إلى نار جهنم إن المتقين كائنون في جنّات والثالث: المعنوي وهو أنه تعالى ذكر مجزاة الحكم، فهو في هذا اليوم زوج عباده حورًا عينًا، وهن منتظرات الزفاف يوم الآزفة.
ثم قال تعالى: {والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} وفيه لطائف الأولى: أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولههم بأولادهم بل يجمع بينهم، فإن قيل قد ذكرت في تفسير بعض الآيات أن الله تعالى يسلي الآباء عن الأبناء وبالعكس، ولا يتذكر الأب الذي هو من أهل الجنة الابن الذي هو من أهل النار، نقول الولد الصغير وجد في والده الأبوة الحسنة ولم يوجد لها معارض ولهذا ألحق الله الولد بالوالد في الإسلام في دار الدنيا عند الصغر وإذا كبر استقل، فإن كفر ينسب إلى غير أبيه، وذلك لأن الإسلام للمسلمين كالأب ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] جمع أخ بمعنى أخوة الولادة والإخوان جمعه بمعنى أخوة الصداقة والمحبة فإذن الكفر من حيث الحس والعرف أب، فإن خالف دينه دين أبيه صار له من حيث الشرع أب آخر، وفيه أرشاد الآباء إلى أن لا يشغلهم شيء عن الشفقة على الولد فيكون من القبيح الفاحش أن يشتغل الإنسان بالتفرج في البستان مع الأحبة الإخوان وعن تحصيل قوت الولدان، وكيف لا يشتغل أهل الجنة بما في الجنة من الحور العين عن أولادهم حتى ذكروهم فأراح الله قلوبهم بقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذرياتهم} وإذا كان كذلك فما ظنك بالفاسق الذي يبذر ماله في الحرام ويترك أولاده يتكففون وجوه اللئام والكرام، نعوذ بالله منه وهذا يدل على أن من يورث أولاده مالًا حلالًا يكتب له به صدقة، ولهذا لم يجوز للمريض التصرف في أكثر من الثلث.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم} فهذا ينبغي أن يكون دليلًا على أنا في الآخرة نلحق بهم لأن في دار الدنيا مراعاة الأسباب أكثر.
ولهذا لم يجر الله عادته على أن يقدم بين يدي الإنسان طعامًا من السماء، فما يتسبب له بالزراعة والطحن والعجن لا يأكله، وفي الآخرة يؤتيه ذلك من غير سعي جزاء له على ما سعى له من قبل فينبغي أن يجعل ذلك دليلًا ظاهرًا على أن الله تعالى يلحق به ولده وإن لم يعمل عملًا صالحًا كما أتبعه، وإن لم يشهد ولم يعتقد شيئًا.
اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {بإيمان} فإن الله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده، ومن ارتد من المسلمين والعياذ بالله لا يحكم بكفر ولده.
اللطيفة الرابعة: قال في الدنيا {اتبعناهم} وقال في الآخرة {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} وذلك لأن في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات المتبوع، وإنما يكون هو تبعًا والأب أصلًا لفضل الساعي على غير الساعي، وأما في الآخرة فإذا ألحق الله بفضله ولده به جعل له من الدرجة مثل ما لأبيه.
اللطيفة الخامسة: في قوله تعالى: {وَمَا ألتناهم} تطييب لقلبهم وإزالة وهم المتوهم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوالد والولد بل للوالد أجر عمله بفضل السعي ولأولاده مثل ذلك فضلًا من الله ورحمة.
اللطيفة السادسة: في قوله تعالى: {مّنْ عَمَلِهِم} ولم يقل من أجرهم، وذلك لأن قوله تعالى: {وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم} دليل على بقاء عملهم كما كان والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه الإشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إليه، ولو قال: ما ألتناهم من أجرهم، لكان ذلك حاصلًا بأدنى شيء لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ولأنه لو قال تعالى ما ألتناهم من أجرهم، كان مع ذلك يحتمل أن يقال إن الله تعالى تفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص، وأعطاه الأجر الجزيل، مع أن عمله كان له ولولده جميعًا، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ} عطف على ماذا؟ نقول على قوله: {إِنَّ المتقين} [الطور: 17].
المسألة الثانية:
إذا كان كذلك فلم أعاد لفظ {الذين آمنواْ} وكان المقصود يحصل بقوله تعالى: {وألحقنا بهم ذرياتهم} بعد قوله: {وزوجناهم} [الطور: 20] وكان يصير التقدير وزوجناهم وألحقنا بهم؟ نقول فيه فائدة وهو أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال هاهنا {الذين آمنواْ} أي بوجود الإيمان يصير ولده من أهل الجنة، ثم إن ارتكب الأب كبيرة أو صغيرة على صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد وربما يدخل الجنة الابن قبل الأب، وفيه لطيفة معنوية، وهو أنه ورد في الأخبار أن الولد الصغير يشفع لأبيه وذلك إشارة إلى الجزاء.